ونحن أطفال صغار أمسكنا بالخيط الرفيع الشفاف، وحلقت الطائرات الورقية فى أبعد نقطة فى السماء نحركها ونتحكم فى مساراتها. ولم نكن نتخيل أن الفكرة البريئة السلمية ستلتقطها أكبر الأجهزة الأمنية وتتنافس حولها الجيوش العسكرية لتطويرها فتصبح «روبوتات»بدون طيار تستخدم لأغراض الحروب والقتال، وتصيب أهدافها بـ«ضغطة من أصغر زر».

«ذكر النحل» هو الاسم الطريف الذى اشتهرت به الطائرات المسيرة حينما اخترقت فضاء السياسة ودخلت المجال الجوى للصراعات العالمية، فتجاوزت حدود المهمات التسويقية والوقائية والترفيهية، وجرى التحكم فيها من بعد، بـ «أشرطة سوداء» وضعت على طول ذيل كل منها لتبدو مثل «ذكر النحل». وكتبت شهادة ميلادها بحروف بريطانية وأمريكية خلال الحرب العالمية الأولى، فكان اختبار الطائرة البريطانية للمرة الأولى عن طريق إشارات الراديو فى مارس ١٩١٧، بينما اختبار الطائرة الأمريكية فى أكتوبر ١٩١٨، ومع نتائج التجربتين الواعدة إلا أن الطائرات المسيرة لم تدخل عمليا فى حالة الحرب.

وخلال عام ١٩٣٥، صنع البريطانيون عددا من الطائرات المخصصة للتدريب، وتدريجيا اتسع نطاق الانتشار لتتحول المسيرات إلى

«شراك خداعية» فى حرب فيتنام لإطلاق الصواريخ على أهداف ثابتة وإلقاء المنشورات للحرب النفسية.

ولم تتردد الإدارة الأمريكية فى استثمار أسراب الطائرات المسيرة لتنشر مقطع فيديو لأكثر من ١٠٠ مسيّرة فوق بحيرة بكاليفورنيا تظهر بنسق وترتيب وتنافس، وتبادلت الطائرات فيما بينها المعلومات ووزعت الوظائف على بعضها وأدت المهمة بنجاح.

وتنوعت المسيرات بين طائرات عسكرية يتجاوز وزنها ٦٠٠ كيلوجرام يطلق عليها «درونز استراتيجية» وتكون مخصصة لتنفيذ مهمات قتالية ذات أهمية كبيرة. منها «بريدايتور سى أفنجر» تصنع فى الولايات المتحدة وكانت أول رحلة لها عام ٢٠٠٩، حيث يصل وزنها عند الإقلاع إلى ٨٫٢ طن، وتمتلك وسائل استشعار متعددة ونقاط تحليق خارجية ومخادع أسلحة داخل جسم الطائرة بصورة تجعلها قادرة على حمل ٣ أطنان من الأسلحة المختلفة التى تضم صواريخ وقنابل موجهة، بل يمكنها التحليق بسرعة تصل إلى ٧٤٥ كيلومترا فى الساعة ولمدة نحو ٢٠ ساعة، وباستطاعتها التحليق على ارتفاعات تصل إلى ١٧ ألف متر.

وأيضا ظهرت «هيرون تى بى»، واشتهرت بـ«أيتان»، وهى طائرة إسرائيلية قتالية يستخدمها الجيش ويمكنها حمل قدر كبير من الأسلحة وأنظمة الاتصال ويشمل تسليحها صواريخ «جو- أرض»وقنابل موجهة ويمكنها أن تبقى ٣٠ ساعة فى السماء خلال التحليق بسرعة تتجاوز ٤٠٠ كيلومتر فى الساعة.

ودخلت روسيا السباق بالطائرة الشبح «أوخوتنيك» أو «الصياد» لتتميز بوزن كبير ومدى طويل وقدرة أكبر على البقاء فى الجو تمكنها من تنفيذ مهمات الاستطلاع والمراقبة داخل أراضى العدو وتنفيذ ضربات دقيقة دون الحاجة لمقاتلات مأهولة ويبلغ طولها ١٤ مترا واتساع جناحيها ١٩ متراً، ووزنها عند الإقلاع ٢٠ طنا، فيما تصل سرعتها القصوى إلى آلاف الكيلومترات فى الساعة، ونجحت أولى رحلاتها عام ٢٠١٩ وبعدها، تدفقت مئات المسيرات الروسية لتخترق الحواجز الجوية وتهدد أمن الدول.

‫وكان لابد أن يظهر اللاعب الصينى فى المشهد بأجنحة ‬ «سى إتش – ٥» التى تم تطويرها بواسطة شركة «كاسك»، وكان أول ظهور لها عام ٢٠١٦، وتشبه الطائرة المسيّرة الأمريكية «إم كيو ٩ ريبر»، واقتدت بها فى أداء مهام قتالية، فضلا عن الاستطلاع والعمليات الاستخباراتية..

وانتعش سوق «المسيرات» العالمية بحالة من الرواج والنشاط، وازدهرت هذه الصناعة على نحو مذهل فى السنوات الخمس الأخيرة.

ومنحت إدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية مئات الإعفاءات الجديدة لكثير من الشركات لتشغيل الطائرات المُسيَّرة. وتسربت الشهوة إلى كل من الصين وتركيا وإيران وإسرائيل، وصار الاعتماد على المهام القتالية المباشرة والقدرة على إطلاق الصواريخ من «فوهة» المسيرات.

واستخدمتها الولايات المتحدة فى حرب الخليج الثانية عام ١٩٩١ للاستطلاع واكتشاف بطاريات الصواريخ العراقية، ومن ثم إرسال الإحداثيات إلى مركز العمليات المشتركة كى تستطيع القوات الأمريكية بعدها تنفيذ مخططاتها دون عقبات. وفور الغزو الأمريكى لأفغانستان عام ٢٠٠١، اكتسبت المُسيرات بعدا عسكريا نوعيا ضد تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان»، وتمكنت القيادة الأمريكية من الاستفادة جويا عبر مسيراتها للتفوق على طبيعة الجغرافيا الأفغانية التى أرهقت الاتحاد السوفيتى فى الماضى وانتصرت على أى غزو برى. ومنذ ذلك الحين، وسلاح «الطائرات المسيرة» لاغنى عنه فى الاستراتيجيات العسكرية لإصابة أى هدف وبلوغ أى نصر.

‫لقد فقدت هذه القطعة المعدنية الضخمة براءتها وتاريخها كـ «وسيلة أليفة» للترفيه والمتعة للصغار، وأحكم الكبار قبضتهم على كل تفاصيلها ومكوناتها ليفترسوا بها العالم، ويتمكنوا بواسطتها من تحقيق «أحلام الغزو».‬

رابط دائم: 

magnifier linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram